تواترت الأنباء عن تغيير حكومي وشيك في الجزائر، خاصة أن هذه الأنباء والإشاعات تعززت بمؤشرات لا يمكن لعين المراقب أن تخطئها، وهو ما يوحي بأن أيام عبدالمالك سلال على رأس الحكومة أضحت معدودة، ويبدو أحمد أويحيى مدير الديوان في رئاسة الجمهورية الأقرب للعودة إلى قصر الدكتور سعدان رئيس الوزراء.
كل شيء بدأ (حسب ما توحي به المؤشرات) بعد الزيارة التي قام بها عبدالمالك سلال إلى فرنسا قبل أيام، هذه الزيارة التي كان ينتظر منها الكثير خلفت وراءها طعما مرا، وشعورا بعدم الراحة وعدم الرضا، حتى وإن بدت الأمور ظاهريا عادية، فوسائل الإعلام الحكومية أفردت مساحة واسعة من نشراتها الإخبارية لتغطية زيارة سلال إلى فرنسا، وهو أمر يبدو عاديا وروتينيا لأول وهلة، ولكن سيكون له معنى بعد ذلك بأيام.
عادة يبدأ الحديث عن تعديل حكومي قبيل أشهر من وقوعه، والمعروف أن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة يحب دائما اختيار التوقيت الذي يناسبه هو عند اتخاذ أي قرار مهم، ويتابع بالتالي الجدل والصخب حول القرار إلى غاية أن يصفر هو نهاية «اللعبة»، وبالتالي فإن الحديث عن تعديل حكومي بدأ منذ بضعة أسابيع، وانطلقت رهانات بورصة السياسة حول الراحلين والوافدين والباقين في الحكومة الجديدة – القديمة، لكن كان هناك ما يشبه الإجماع بشأن عبدالمالك سلال، الذي بدا ثابتا في مكانه لا تزعزعه ريح، خاصة وأنه رجل الثقة الأول بالنسبة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ومحيطه، وبدا أيضا أن التعديل مؤجل نوعا ما، لأنه كثيراً ما يستعمل كورقة لنزع فتيل أزمة أو تحويل الأنظار عن مشكلة ما، وما دامت الأمور تسير في جو هادئ نسبيا، فالورقة كانت مؤجلة لوقت الحاجة، لكن هذه الاعتبارات تسقط إذا ما وقع طارئ.
عندما حان موعد الزيارة التي كان سيقوم بها عبدالمالك سلال إلى بريطانيا بعد أسبوع من زيارة باريس، تبين أن هناك مشكلا بشأن زيارة لندن، فقد سرب إلى الصحافة خبر بشأن إلغاء الزيارة في وقت أول، إذ كان من المقرر أن يسافر سلال يوم الثلاثاء الماضي، لكنه في الأخير التحق بالوفد يوم الخميس.
كلام كثير قيل عن المد والجزر بخصوص هذه الزيارة، البعض قال أن الرئاسة هي التي ألغت الزيارة لأسباب بروتوكولية، خاصة وأن ديفيد كاميرون كان في زيارة إلى تركيا، ولم يكن بإمكانه استقبال سلال، والبعض الآخر أشار إلى غضبٍ في الرئاسة على سلال، وأن تغييرا حكوميا سيودي به أضحى وشيكا.
وبعد أن تبين أن تنقل سلال إلى لندن أُجل بـ48 ساعة، أراد البعض أن يقلل من أهمية الجدل بشأن هذه الزيارة، فأرجع الأخذ والرد إلى مشكل في أجندة رئيس الوزراء البريطاني، لكن ثمة مؤشرا طرأ على الموضوع لا تخطئه عين المراقب، وهو طريقة تعاطي الاعلام الحكومي مع زيارة سلال إلى المملكة المتحدة، فنشرة التلفزيون الرئيسية لم تخصص سوى ثوان معدودات للحديث عن زيارة سلال، في حين انها قبل أسبوع أفردت نصف النشرة لزيارة باريس!
الجميع يعلم أن طريقة تعاطي الإعلام الحكومي مع حدث ما ومع مسؤول ما سابق أو حالي لا يمكن أن تكون بأي حال اعتباطية أو نتيجة ارتجال أو اجتهاد، وأن جهة ما تكون قد اتصلت بمسؤولي وسائل الاعلام الثقيل من أجل خفت الاضواء على زيارة رئيس الوزراء إلى المملكة المتحدة، وهو ما يفسر في قاموس السياسة (غير المكتوب) في الجزائر بأنه بداية السقوط في جهنم غضب «المرادية» (قصر الرئاسة)، حتى لو كانت الأسباب الحقيقية لهذا الغضب غير واضحة وغير مصرّح بها.
كل المؤشرات تقريبا توحي بأن شيئا ما وقع خلال زيارة رئيس الوزراء الجزائري إلى باريس، سواء تعلق الأمر باستقبال سلال من طرف نائب في البرلمان فقط على مستوى المطار، حتى وإن كان هناك من برر هذا بالبروتوكول الفرنسي الذي يقضي بأن رئيس الوزراء الفرنسي لا يستقبل زواره في المطار، وإنما يستقبلهم بقصر ماتينيون، أو تعلق بتصريحات سلال في المؤتمر الصحافي، علما أن هذا الأخير اعترف خلال رده على أسئلة الصحافيين بأن بوتفليقة دخل فعلا مصحة في مدينة غرونوبل، وهو أول اعتراف رسمي بهذا الأمر، الذي سعت السلطة إلى التكتم عليه، بل وتكذيبه عبر قنوات الإعلام الخاص الدائر في فلكها، أو قد يكون للأمر علاقة بشيء آخر وقع في الكواليس.
ومن سخرية القدر أن زيارة علي بن فليس رئيس الحكومة الأسبق إلى باريس في 2002، كانت أحد أسباب إفساد علاقة الثقة بين الرئيس بوتفليقة وبن فليس، خاصة أن الأخير أُستقبل في باريس كرئيس جمهورية من طرف السلطات الفرنسية، وهو ما عجّل برحيله عن رئاسة الحكومة ودخوله دائرة المغضوب عليهم، بعد أن كشف عن نيته الترشح لانتخابات الرئاسة لسنة 2004.
مفاتيح اللعبة تبقى بيد المرادية التي قد تكون أرادت فقط «قرصة أذن» من وراء التعتيم على زيارة لندن. أما إذا كان الحكم النهائي قد صدر فعلا في حق سلال، فإن عملية التغيير قد تتطلب بضعة أيام أو أسابيع، لاعتبارين الأول هو الوقت الذي تستغرقه عملية الاتفاق حول اسم الوزير الاول الجديد، والذي يرى المراقبون أنه لن يكون الا أحمد أويحيى محطم الأرقام القياسية في تولي منصب رئيس الحكومة في كل «العصور»، خاصة أن الجزائر مقبلة على أوقات صعبة في ظل استمرار تراجع أسعار النفط، والتي تتطلب قرارات لـ «شد الحزام» وترشيد النفقات، قرارات لن تكون شعبية، ويكون أحمد أويحيى الاقدر على تنفيذها وتحمل تبعاتها، والسبب الثاني قد يكون الرغبة في إنزال عقاب مهين يطول وقته لمن يراد له الخروج من الباب الضيق، هذا العقاب مخصص طبعا لمن ثبتت في حقه جريمة «إهانة الذات الرئاسية»!